سنوات المَحل - جريدة المدن - عصام الجردي

 

 - Jul 16, 2018



 عندما تستعصي الأزمات السياسية والاقتصادية، وتجد الحكومات نفسها عاجزة عن الحلول، تقرر الدول التي تحترم الدستور استقدام موعد الانتخابات النيابية كي يقول الشعب كلمته. فتتولى حكومة جديدة ادارة شؤون البلاد والعباد. يحصل الأمر نفسه حتى لو كان مجلس النواب منتخباً للتو، ودهمت البلاد صعوبات في تأليف الحكومة. شأن ما واجهته مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل والحزب الديموقراطي المسيحي، قبل أن تتمكن من تشكيل ائتلاف حكومي. وكانت ميركل قريبة جداً من الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة بعد تأليف الحكومة، لو لم تتوصل إلى حل الخلاف مع وزير الداخلية هوست زيهوفر من الحزب المسيحي البافاري.

في لبنان حصلت انتخابات نيابية. وأتى من أتى على أساس قانون انتخابي جديد، قيل إنه أكثر عدالة من القانون القديم الأكثري لأنه يعتمد النسبية. وكان واقعاً تشويهاً للنسبية التي لا تستقيم بالكوتا الطائفية وبتعدد الدوائر غب الطلب، وبفرض لوائح مقفلة على الناخبين من دون حق الشطب. كانت النتيجة أن نسبة المقترعين وفقاً للنظام الانتخابي الجديد لم تصل الى 50% في مقابل 54% في انتخابات 2009 على أساس قانون الـ60 الأكثري. ما يعني أن القانون النسبي المشوه لم يعزز ثقة المواطن بقدرته على التغيير للإقبال على الاقتراع والاشتراك في صنع القرار. علماً، أن المقارنة بين انتخابات 2018 وانتخابات 2009 غير متماثلة لو احتسبت الزيادة في عدد الذين يحق لهم الاقتراع في 2018 وبلغوا 22 عاماً. رضينا. مع ذلك لا يتمكن رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري تأليف الحكومة الجديدة، رغم المخاطر التي يواجهها البلد.

النظام السياسي لا ينتج قانون انتخاب عصرياً وديموقراطياً. يرسخ نفسه ببدعة الديموقراطية التوافقية والميثاقية العابرة الدستور. يتعطل مفهوم الديموقراطية في شكله البسيط المتعارف عليه حكومة ومعارضة. ويتعطل دور مجلس النواب في رقابة الحكومة ومساءلتها وحجب الثقة عنها، طالما هي وليدة توافق الأكثرية السياسية الطوائفية المقررة في المجلس. الأسوأ، يغدو طرح الثقة بوزير أشبه بطرح الثقة بطائفته. وكمن يطلق النار على رأسه. كل تكتل نيابي يحمي وزراءه. فإن أحسن وزير، فلمصلحة كتلته النيابية. وإن أساء، فمحميٌ من الكتلة والطائفة. مرجعية الوزير ليس مجلس الوزراء بل رئيس الكتلة في مجلس النواب أو في مجلس الوزراء. ولأن لا معارضة ولا موالاة، تتحول المعارضة من خارج الحكومة إلى داخل مجلس الوزراء. والتصويت ممنوع ويخدش عفة الميثاقية! فيتعطل البلد في الشؤون الكبيرة لعلة المصالح بجلباب الطائفة. فتغدو كل القامات الصغيرة ذوات ألسنة طويلة، تستحضر بالصغائر كل الكبائر. وحين يتصل الأمر بالنزاهة، يفتدى بالمال العام بوليصة تأمين تتجدد تلقاءً. وتتحصن بها كتل سياسية أخرى وطوائف، من عاديات الزمن وحقوق الناس. فالكل في الوليمة سواءٌ. والناس من الوضيمة تقتات. وللطوائف حقوق في الخزانة العاجزة تعطى وكالتها الحصرية لزعيم الطائفة. وحيث يعجز فرادى، تتدخل الطوائف مباشرة ويستنصر بعضها بعضاً.

لهذه الأسباب وليس على وجه الحصر، لم يتمكن الحريري من تأليف الحكومة. دعونا من زعم ربط القضية بالتطورات الاقليمية، ونهج التابع والمتبوع. لا يوجد نص دستوري يلزم الرئيس المكلف تأليف الحكومة في مهلة معينة. يلزمه شهراً للتقدم من مجلس النواب بالبيان الوزاري. الرئيس المكلف ليس حراً في تأليف الحكومة. يجب أن يتم بالاتفاق مع رئيس الجمهورية ويصدران مرسوم تأليفها معاً. رئيس الجمهورية ميشال عون لم يوافق على صيغ عدة اقترحها الحريري. هكذا نفهم من تصريحات الوزير جبران باسيل الذي دخل شريكاً مضارباً في تأليف الحكومة بلا أي صفة. خلا إنه رئيس تكتل لبنان القوي وقت ينوء لبنان بضعفه المؤسسي والدولتي، كما لم يحصل حتى زمن الحرب عندما كانت المراسيم توقع عبر أحد درّاجي شرطة بيروت.

يستقوي باسيل وتياره بلبنان الضعيف. يضعف ساعة الحقيقة وحساب الانجازات. لا لشيء سوى لأن "الآخرين لا يسمحون لنا بالعمل ويعرقلوننا" على ما يردد في لحظات الفشل. وفي كل الملفات التي عهدت إليه وإلى تياره لاسيما وزارة الطاقة والمياه. والعرقلة ناجمة عن مطالبة كل لبنان بحل لأزمة الكهرباء والمياه الملوثة والنفايات شريطة مروره بادارة المناقصات. ووفقاً لأصول الرقابة وسلطة ديوان المحاسبة. حتى قرارات مجلس الوزراء يتم العبث بها أوان التنفيذ. ها هي باخرة الكهرباء التركية الثالثة تيمم نحو شواطئنا وتربط في الجية إلى جانب شقيقتيها. لينضم ما تبقى من ساحل البحري جنوباً، ومنطقة صيدا والاقليم وجوارها إلى الزوق وواجهة كسروان البحرية المترعة تلوثاً وأمراضاً. وبناء معامل الانتاج الكهربائي المستدام بند أول في الاصلاحات القطاعية الواردة التي لحظها مؤتمر سيدر. الورقة التي أعدها فريق العمل في رئاسة الجمهورية لحظت نحو 36 مليار دولار اميركي عجزاً تراكمياً في الكهرباء فقط. أقل بقليل من الدين العام الاجمالي من خارج مصرف لبنان. كيف يمكن انجاز الاصلاحات الهيكلية التي طالب بها مؤتمر سيدر المتعلقة بالموازنة وخفض العجز والادارة المالية والفساد والإهدار، قبل الاصلاحات القطاعية أو بتلازمها معاً؟

تبقى كلمة لسعد الحريري. أنت تحالفت مع باسيل والتيار الوطني الحر. وكنت تعلم مسبقاً أنه تيار جائع للسلطة وللسلطة فقط. عاقبك جمهورك في الانتخابات. الوضع الذي وصل لبنان إليه، وحجم المخاطر الاقتصادية والمالية خصوصاً يحتمان عليك الاسراع في تأليف الحكومة وتقديمها إلى رئيس الجمهورية ليتحمل الكل مسؤولياته. ومعينك دستور تستقوي به. وغيرك يستقوي بصلف بضعف لبنان والدولة وانتهاك الدستور. لعلنا نخفف من ارتدادات سنوات المَحل على لبنان واهله. وظني أنها لم تبح بكل خباياها بعد.

أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة