نداء إلى النقابيين اللبنانيين: الحريق وصل إلى معنى النقابة وجدواها - جريدة النهار - غسان صليبي

 
 - May 23, 2019



 أخاطبكم كأخ وكرفيق

وإذا أردتم، أخاطبكم كمستشار سابق لكم في الاتحاد العمالي العام لمدة عشر سنوات، وكمدرب لكم على حرية وديمقراطية وفعالية النقابات لأكثر من خمس وثلاثين سنة.

لم أخفْ يوماً على الحركة النقابية اللبنانية كما أخاف اليوم.

ليس بسبب الكلام المدان عن البطريرك صفير والذي صدر عن بشارة الاسمر، بل بسبب ردود الفعل على هذا الكلام.

لقد كتبتُ الكثير عن الاتحاد العمالي العام، وقد أغضبتْ كتاباتي الكثير منكم، عندما كنت وما زلت أصف الاتحاد العام بأنه ضعيف التمثيل للعمال وخاصة في القطاع الخاص وفي القطاع غير الرسمي، وذات تركيبة حزبية-مذهبية تفتقر إلى أبسط شروط الديمقراطية والاستقلالية، وذات فعالية شبه معدومة بما يتعلق بالتأثير في السياسات العامة الاجتماعية والاقتصادية.

والطريف، لكن المشجِّع في آن، أنكم وافقتم معي في دراسة أجريتها مع أعضاء المجلس التنفيذي، على توصيفي لواقع الاتحاد العمالي العام.

كما أن حوالي مئة شخص منكم، شاركوا معي في حوار منذ شهر حول هذا الواقع، وقد أجمعنا على الخلل الكبير الذي يعاني منه الاتحاد في تنظيمه وعمله.

كنت في نقدي وفي حواري معكم متمسّكاً، كما أنتم، بمفهوم للنقابة نقرأ على ضوئه الخلل الحاصل. والنقابة بالنسبة لنا هي منظمة ينشئها ويديرها الأجراء أنفسهم، بغضّ النظر عن لونهم وجنسهم وطائفتهم وجنسيتهم وعرقهم. وهذه المنظمة تكون ديمقراطية ومستقلة تجاه أصحاب العمل والسلطة والأحزاب ورجال الدين والزعامات. وهي لا يمكن أن تكون ديمقراطية إذا لم تكن مستقلة، كما أنها لا يمكن أن تكون مستقلة إذا لم تكن ديمقراطية. والنقابة تدافع عن مصالح الأجراء بجميع الأشكال النضالية الديمقراطية، بما فيها الضاغطة.

ما يخيفني اليوم هو أن هذا المفهوم، هذا المعنى للنقابة، بات في خطر. أي أننا كحركة نقابية، لم نعد فقط نتخبّط في المشاكل ونكاد نغرق، بل نحن على وشك فقدان البوصلة التي قد تساعدنا على النجاة.

أقول هذا بعد أن راقبت ردود الفعل النقابية والسياسية على كلام بشارة الاسمر.

فإذا كنت أتفهّم غضب الاتحادات النقابية القريبة من القوات اللبنانية من كلام الاسمر، وتعليقها لعضويتها في الاتحاد العام، إلا أنني لا أفهم أبداً، لا بل أستهجن أن "تضع هذه الاتحادات نفسها في تصرف البطريرك الراعي".

فمع كامل احترامي للبطريرك، إنه يمثل مرجعية دينية ولا يمكنه أن يقرر ما يعود إقراره إلى الاتحادات النقابية وحدها، وتحديداً إلى أعضائها من العمال. فهل نسيت قيادات هذه الاتحادات أنها تمثّل العمال ولا تمثّل حزبها أو طائفتها؟ وأي معنى للنقابة إذا كان على البطريرك أن يقرر بشأنها؟ لا أعتقد أن البطريرك نفسه يقبل بذلك.

وإذا كنت أتفهّم أيضاً -أو ربما لا أتفهّم- موقف الوزير جبران باسيل المستهجن لكلام الاسمر، إلا أنني لا أفهم أبداً منطقه عندما يقول إن "هذه مناسبة لكي يصلح الخلل الإضافي في البلد لأن الميثاقية والشراكة هي في رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي وهي أيضاً في الاقتصاد والإدارة. ومن الطبيعي بألاّ نعترف بهذا الموقع بالشكل الذي هو فيه لحين تصحيح الوضع القائم".

أخطر ما في كلام الوزير باسيل أنه ينظر إلى الاقتصاد وكأنه يعمل وفق آليات النظام الطائفي، ويريد تحويل النقابات إلى اتحاد بين مجموعات عمالية طائفية، واختصار الديمقراطية بمفهوم محدد واستثنائي خاص بتنظيم العلاقة بين الطوائف، ألا وهو الشراكة والميثاقية.

صحيح أن الكثير من النقابات العمالية الحالية أُنشئت على أساس طائفي مذهبي، وأن بعضها الآخر المختلط يؤلف مجالسه التنفيذية على قاعدة الشراكة الحزبية المذهبية. لكن هذا الواقع هو حالة مرَضية أدّت إليها الحرب وما تبعها من تطورات سياسية أو عنفية، وما أنتجه كل ذلك من تغيرات في البنى المجتمعية وفي الوعي الشعبي.

بهذا المعنى يصبح كلام الوزير باسيل وكأنه يريد إيقاف الزمن، وجعل الاستثناء قاعدة، وإعطاء الشهادة الصحية لحالة مرَضية، وتثبيت مفهوم المحاصصة الطائفية داخل النقابات، هذا المفهوم الذي أفسد الحياة العامة وأفلس الاقتصاد وجرّد الدولة من قدرتها على الحكم. فهل هذا ما يطمح إليه الوزير باسيل بشأن النقابات؟

ولتوسيع النقاش، أضيف أن التأثيرات الطائفية على النقابات كانت موجودة حتى قبل الحرب، إلا أن هذه التأثيرات بقيت محدودة بالمقارنة مع تأثير علاقات الإنتاج والوضع الاقتصادي الذي يعمل وفق آلياته الخاصة، ولو تأثر أو أثّر بدوره في النظام الطائفي، ما سمح للاتحاد العمالي العام بأن يحافظ على وحدته إبان الحرب رغم الانقسامات الطائفية، وأن يحقق مكاسب عمالية، إضافة إلى قيادته أوسع تحالف مدني ضد الحرب عبّر عن نفسه في الإضراب والتظاهرات. وهذا ما يعطينا بعض الأمل بإمكانية الخروج من هذا الواقع المذري إذا توفرت الإرادة وتأمّنت ظروف موضوعية نصنعها كما تصنعنا.

وإذا كنت أتفهّم أيضاً وأيضاً غضب وزير العمل خليل سليمان، من كلام الاسمر، إلا أنني أستغرب أنه كان يحاول اللجوء إلى المادة 105 من قانون العمل لإقالته من رئاسة الاتحاد.

فهو رجل قانون، وعملَ في بلدان تحترم الحريات النقابية، كما أنه باشر بالعمل الجدي على تعديل قانون العمل. وهو بالتالي يعلم أن المادة 105 والتي تعطي الحكومة الحق بحلّ مجلس النقابة أو إقالة أحد أعضائه إذا أخلّ هذا المجلس أو هذا العضو "بالواجبات المفروضة عليه أو أتى عملاً لا يدخل في اختصاصه"، هي مادة مخالفة لأبسط الحريات النقابية التي نصّت عليها الاتفاقيات الدولية ولا سيما الاتفاقية 87.

وهو يعلم أيضاً أن الاسمر لم يخلّ "بالواجبات المفروضة عليه"، بل كان يقوم بواجباته النقابية بنشاط ملفت. كما أنه لم يقم بعمل "لا يدخل في اختصاصه" إلا إذا اعتبرنا الاساءة اللفظية بحق البطريرك صفير، هي في إطار المهام النقابية التي يقوم بها، وهذا غير صحيح. وبالتالي إن ما قام به الاسمر لا يطبّق عليه قانون العمل بل قانون المطبوعات، أو القانون الجزائي إذا اعتبر القضاء أن الجرم يستحق ذلك.

إن محاولة الوزير سليمان تطبيق المادة 105، لا تجعلنا نخاف فقط على الحريات النقابية، بل أيضاً على الحرية الشخصية وحرية التعبير للفرد النقابي خارج إطار ممارسته لعمله النقابي.

أعرف تماماً أن ردود الفعل هذه لا يمكن عزلها عن الشكوى المسيحية النقابية والسياسية من تحكّم حركة أمل ومعها حزب الله، بالقرارات داخل الاتحاد العمالي العام، وذلك بسبب تمتعهما بالأكثرية العددية للاتحادات التي تشكّل الاتحاد العمالي العام. لذلك نرى معظم الاتحادات المسيحية تتكلم عن ضرورة "تصحيح الخلل المزمن"، ونرى الوزير باسيل ينادي "بالشراكة والميثاقية داخل الاتحاد العام".

ما تشكو منه القوى المسيحية، هو في الواقع نتيجة لما مارسته جميع القوى الحزبية المذهبية وغير المذهبية لأكثر من ثلاثين سنة، وهو يتمثل بإنشاء نقابات واتحادات ذات قاعدة حزبية-مذهبية وضمّها إلى الاتحاد العمالي العام. وإذا كانت حركة أمل وحزب الله تمكّنا من تأسيس أكبر عدد من الاتحادات، فلأنهما ينتميان إلى حزبين عُرفا بدينامية أقوى على مستوى التنظيم العمالي، وفي إطار تنامي نفوذ الطائفة الشيعية، لكن أيضاً في ظروف مساعِدة لهما، أهمها الدور الذي لعبه وزراء العمل المتحالفين معهما والذين يصدّقون قانوناً على إنشاء النقابات والاتحادات. كل ذلك في رعاية الوصاية السورية الداعمة للحزبين.

لم يكن لهذا المسار الفرصة لأن يتبلور لولا موافقة جميع الأطراف الحزبية والطائفية على ثلاث قواعد تنظيمية على الأقل، مخالِفةً جميعها لمفهوم العمل النقابي الصحيح :

- إنشاء اتحادات ذات طابع عام وغير قطاعي يضم نقابات بدون رابط إقتصادي وبالتالي بدون برنامج مطلبي ولا دور نقابي.

- الاستمرار بتطبيق نظام داخلي غير ديمقراطي يعطي كل الاتحادات تمثيلاً متساوياً في هيئات الاتحاد العمالي العام، بغضّ النظر عن حجمها التمثيلي الفعلي، ما يسمح للقوى التي لديها أكبر عدد من الاتحادات من أن تتحكّم بالقرارات.

- عدم الاعتراض الفعلي على إعطاء وزارة العمل الحق بالترخيص المسبق للنقابات كشرط لممارسة عملها، وكذلك الحق بالاشراف على النقابات انتخابياً ومالياً

النقابيون الأعزاء

أنتم على مفترق طرق.

فإما تُمعنون في تقزيم الاتحاد العمالي العام وتحجيمه من خلال "تطوير" المحاصصة الطائفية في تركيبته، أو تقررون بشجاعة القطع ولو التدريجي مع المسار القديم، وتطوير الاتحاد العمالي العام من خلال إعادة بنائه على أسس قطاعية وديمقراطية، مع جهد خاص لاستقطاب العمال وتوسيع قاعدة الانتساب وحجمها، كل ذلك في إطار تفعيل استقلاليته ودوره وتحركاته كمدافع عن العمال ومصالحهم لأي فئة انتموا.

مسؤولية الاتحادات المسيحية كبيرة. لكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق اتحادات حركة أمل وحزب الله اللذين يملكان القدرة التصويتية على الاستمرار في مراكمة أسباب الضعف أو قيادة معركة التغيير.

وإنصافاً لبشارة الاسمر، لا بد من الاشارة إلى أنه كان يعدّ مع بعض النقابيين لإطلاق ورشة إصلاح تبدأ بوضع خطة استراتيجية للاتحاد العام تحدد أولوياته وتعيد النظر بطرق العمل والأطر التنظيمية. وكان بالفعل قد نجح بفضل ديناميته ودعمه للقطاعات المختلفة، من استعادة بعض المصداقية المفقودة للاتحاد العام.

وإذا كنا اليوم، وبعد استقالة الاسمر، في مرحلة انتقالية قبيل إجراء انتخابات جديدة لقيادة الاتحاد العمالي العام، فإني أقترح عليكم الاتفاق مسبقاً على ماذا تريدون، الاستمرار في النزف أم الإقدام على تغيير أشكال التنظيم والعمل، حتى يأتي الانتخاب واختيار نوعية المجموعة القيادية الجديدة، ترجمة لقراركم.

 
 
   
أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة