كل القوانين الانتخابية «أرثوذكسي» -جريدة الاخبار -غسان سعود

 - Jan 16, 2013



 ليس اقتراح قانون اللقاء الأرثوذكسيّ إلا حلقة في سلسلة قوانين انتخابية كرّستها ثنائية الحريري ـ جنبلاط، ميزت بين اللبنانيين، وأنشأت دويلات مذهبية، وخالفت التقسيمات الدستورية لمقاعد المجلس النيابي بين الطوائف، ومنعت الخارجين عن النظام الطائفيّ من اختراقه
 يخيّل إلى سامع وجهات النظر، وخصوصاً الحريرية والجنبلاطية، في شأن قانون الانتخاب أنه في بلد يبقي الناخب فيه مذهبه في منزله يوم الانتخابات، ويذهب ليختار أفضل من يحمي المصلحة العامة، من دون أن يسأل عن مذاهب المرشحين أو مصلحة مذهبه. وما اقتراح اللقاء الأرثوذكسي إلا مشروعاً يهدّد بتدمير عقود من التحرر المذهبي والعلمانية التمثيلية والعدالة والسلم الأهلي. فاللبنانيون، وفق المنتقدين للاقتراح الفرزليّ، مواطنون في دولة ــــ وليس دويلات ــــ متساوون في الحقوق، لا علاقة لنظامهم بما أبدعوا في تسميته ديموقراطية توافقية، ولا يقضون حياتهم متنقلين جماعات بين شعور بالغبن الطائفي وشعور أشد منه فتكاً بفائض القوة.

 

لكن الواقع ليس كذلك. الواقع أن ثمة نظاماً طائفياً تنعدم، تقريباً، محاولات تغييره. وفي هذا النظام 128 مقعداً نيابياً يمثّل شاغلوها، بحسب الدستور، «الأمة جمعاء». وإلى «أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي» يتوزّع هؤلاء على المذاهب، بحيث تتمثل كل من الطائفتين الشيعية والسنّية بـ 27 مقعداً، والطائفة الدرزية بثمانية مقاعد، والطائفة العلوية بمقعدين، ليكون مجموع المقاعد المحمدية في المجلس النيابي 64 مقعداً. يقابلها 64 كرسياً مسيحياً، تتوزع كالآتي: 34 للموارنة، 14 للأرثوذكس، ثمانية للكاثوليك، خمسة للأرمن الأرثوذكس، كرسي للأرمن الكاثوليك، كرسي للإنجيليين، وكرسي واحد للأقباط والأشوريين والسريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والأشوريين والكلدان.
وقد أظهرت نتائج انتخابات 2009 الآتي:
أولاً، تكريس التمييز بين المواطنين. ففي بعض الدوائر، مثل طرابلس أو زحلة أو بيروت، ينتخب المواطن نائباً سنياً وآخر أرثوذكسياً وثالثاً مارونياً ربما. أما في دوائر أخرى، فيطبّق فعلياً اقتراح اللقاء الأرثوذكسي مجتزأً، بحيث ينتخب المقترعون نواباً من طائفة واحدة: تنتخب بشري المارونية نائبين مارونيين فقط، وكسروان خمسة نواب موارنة، ويمثل زغرتا ثلاثة نواب موارنة، والكورة ثلاثة نواب أرثوذكس، والمنية ثلاثة نواب سُنّة، والبترون نائبان مارونيان، وصيدا نائبان سُنيان، وبنت جبيل ثلاثة نواب شيعة، وصور أربعة نواب من لون طائفي واحد، والنبطية ثلاثة نواب شيعة. بناءً عليه، إن المواطن العكاريّ ينتخب علوياً وسنياً ومارونياً وأرثوذكسياً، وزميله في المواطنية نفسها ينتخب شيعيّين أو مارونيين أو سنيّين حصراً في دوائر أخرى. إضافة إلى التمييز العددي؛ فمقابل انتخاب الصيداويّ كما البترونيّ نائبين فقط، ينتخب الهرملي والبيروتي عشرة نواب. وفي خانة التمييز أيضاً، يحتاج المرشح البشرّاوي إلى عشرة آلاف صوت للفوز مقابل سبعين ألفاً يحتاجهم المرشح العكاري، وبينهما يكفي الصيداوي عشرون ألفاً للفوز بمقعد نيابي، والكسرواني ثلاثون ألفاً والبعبداويّ كما المتنيّ أربعون ألفاً والطرابلسي خمسون ألفاً والشوفيّ ستون ألفاً. ومقابل تمثيل نحو 157 ألف زحليّ بسبعة نواب، يتمثل نحو 223 ألف عكاري بسبعة نواب أيضاً، ونحو 55 ألف جزيني بثلاثة نواب، ونحو مئة وثلاثين ألفاً من النبطية بثلاثة نواب أيضاً.
ثانياً، نشوء دويلات مذهبية مقفلة تبرز معالمها بوضوح في جداول النتائج الانتخابية المفصّلة: حين ترتفع نسبة التصويت للائحة المستقبل مقابل مراوحة اللائحة الأخرى بين اثنين وعشرين في المئة من أصوات المقترعين، يعلم القارئ أنه في إحدى قرى البقاع الغربي السنية، وأنه في أرض شيعية حين تنعكس النتائج. في بعلبك بلدة شيعية تدعى البساتين، حصل حزب الله عام 2009 على 359 صوتاً من أصوات مقترعيها الـ 361، إذ انتخب مُواطِنان بورقة بيضاء. وفي عكار بلدة أخرى تدعى البساتين، سُنيّة هذه المرة، حصل تيار المستقبل على 90 صوتاً من أصوات مقترعيها التسعين. في البويضة، الجوبانية، الخرايب، السهلات وعدة بلدات أخرى فعلت لائحة حزب الله ما لم يفعله ملوك العرب والفراعنة، فحظيت بتأييد المقترعين مئة في المئة. يعيّر النائب وليد جنبلاط خصومه بالشمولية، ويحصل في بلدة بقعاتا مثلاً على مئة صوت من أصل مئة اقترعوا، وفي السمقانية على 396 صوتاً من أصل 399 اقترعوا. وفي قرى العلويين العكارية، يحصل النائب السابق مخايل الضاهر على 1004 أصوات من أصل 1006 في بلدة حنيدر، مقابل حصول لائحة المستقبل مجتمعة على صوت واحد. فيما تحصد لائحة الضاهر 116 صوتاً من أصل 116 في البربارة و172 صوتاً من أصل 172 في ضهر القنبر. والسيئ في هذه الدويلات أن المناوئين لحزب الله وحركة أمل وتيار المستقبل والحزب التقدميّ يتآكلون أكثر فأكثر دورة تلو دورة. إضافة إلى تفشي الخلافات في ما بينهم، معتقدين أنهم يأخذون من دروب بعضهم، بدل اتفاقهم معاً للنيل من خصومهم المفترضين.
ثالثاً، هوس الأكثريات بمقاعد الأقليات. فيحظى المرشح عن المقعد الماروني في بعلبك ــــ الهرمل إميل رحمة مثلاً بأعلى نسبة تأييد شيعي في تلك الدائرة، ولا يليه أحد مرشحي حزب الله، بل المرشحان عن المقعدين السنيين في تلك الدائرة الوليد سكرية وكامل الرفاعي، فالمرشح عن المقعد الكاثوليكي مروان فارس، وأخيراً النائب نوار الساحلي وزملاؤه في حزب الله. ليضمن الناخبون الشيعة بذلك خسارة المرشحين عن المقعدين السنيين والمقعدين الماروني والكاثوليكي المناوئين لحزب الله، مهما كانت نسب تأييدهم في طوائفهم. وإلى زحلة، حيث يجيّر تيار المستقبل لجميع المرشحين على لائحته نحو 89.5% من أصوات المقترعين، باستثناء المرشح عن المقعد السني النائب عاصم عراجي الذي يحصل على 88.5%. وفي السياق نفسه، يحصل المرشح عن المقعد الشيعي على اللائحة العونية حسن يعقوب على أقل نسبة تصويت وسط المقترعين الشيعة. أما في الشوف، معقل النائب وليد جنبلاط، فيتقدمه المرشح عن المقعد الكاثوليكي نعمة طعمة في مجموع الأصوات العام بـ332 صوتاً. وفي البقاع الغربي، كان يمكن ماكينة حزب الله التساهل نسبياً مع من يشطبون مرشح الثنائي الشيعي ناصر نصر الله لانتخاب محمود أبو حمدان، أما إيلي الفرزلي وعبد الرحيم مراد، فخطان أحمران: حصد الأول 94.3% من نسبة التصويت الشيعي، والثاني 92.6%، مقابل 88.1% لنصر الله. وفي جبيل يفوز النائب سيمون أبي رميا بتأييد 94.9% من المقترعين الشيعة، مقابل حصول زميله المرشح عن المقعد الشيعي على 90.7% فقط من المقترعين الشيعة، وخصمه النائب السابق فارس سعيد على 2.9% من أصواتهم. وفي عكار، ليس النائب خالد ضاهر من يحل أولاً عند الناخبين السنّة، بل المرشح عن المقعد الأرثوذكسي رياض رحال بنسبة 82.7% بفارق 5382 صوتاً عن المرشح عن المقعد السني معين المرعبي الذي فاز بـ75.2% من تأييد المقترعين السنّة. وبناءً عليه، يتبين أن اختيار الأكثريات ضمن دويلاتها بين مرشحي طوائفها وارد، وتفضيل الناخب المستقبلي النائب السابق وجيه البعريني على النائب معين المرعبي وارد أيضاً، أما الالتزام بالمرشحين المسيحيين والسنّة على لوائح حزب الله في «دويلاته»، والمسيحيين والشيعة والعلويين على لوائح المستقبل في «دويلاته» فمطلق.
رابعاً، تعاظم شعور بعض الناخبين من طوائف معينة بعجزهم عن إيصال ناخبيهم. فنسبة الاقتراع الأرثوذكسي لم تتجاوز عشرين في المئة في الجنوب، 37.2 في المئة في بيروت، 40 في المئة في الشمال و44 في المئة في البقاع، مقابل 55.6 في المئة في جبل لبنان. مع العلم أن التجمع الأرثوذكسي الأكبر يرتكز في الشمال، حيث فاز كل من فريد حبيب ونقولا غصن ورياض رحال ونضال طعمة وروبير فاضل بكراسيهم الأرثوذكسية، رغم تفضيل الأكثرية الأرثوذكسية غيرهم عليهم، فيما فاز النائب فريد مكاري بتأييد 50.2% من المقترعين الأرثوذكس في الكورة. وتظهر المقارنة أن 8600 أرثوذكسي من أصل 15 ألف ناخب تقريباً اقترعوا في زحلة؛ لأن أصواتهم تؤثر في اعتقادهم، مقابل 4300 أرثوذكسي فقط من أصل نحو 15 ألف ناخب أيضاً اقترعوا في دائرة بيروت الثالثة لثقة أكثريتهم بأن أصواتهم لا تغيّر في المعادلة. مع العلم أن النائب السابق إيلي الفرزلي ليس صاحب فتوحات أرثوذكسية في دائرته (البقاع الغربي – راشيا)؛ ففي الانتخابات الأخيرة حظي بتأييد 51% فقط من المقترعين الأرثوذكس الذين لم تتجاوز نسبة مشاركتهم 34 في المئة، مقابل نجاح حزب الله برفع نسبة المشاركة الشيعية إلى 68.2 في المئة في محاولته الفاشلة لإنجاح الفرزلي. ومن الأرثوذكس إلى السنّة أنفسهم، سُجلت أدنى نسبة اقتراع سني (42.8%) في انتخابات 2009 في دائرة بعلبك ــــ الهرمل حيث أكثرية الناخبين شيعة، ورغم تأييد 81.6 من المقترعين السنّة مرشحي تيار المستقبل، حل محلهما في المجلس مرشحو حزب الله.
خامساً، تلاشي الاختراقات الفردية، فبعد تميز انتخابات الـ 2000 بتحقيق بعض المرشحين المنفردين، على غرار مسعود الأشقر في الأشرفية ويوسف الخليل في كسروان وغيرهما، أرقاماً عالية نسبياً، تراجع المنفردون في انتخابات 2005 ليبلغوا حد التلاشي في الانتخابات الأخيرة نتيجة إحكام الماكينات الحزبية الكبيرة سيطرتها. ففي كسروان اقترع أكثر من ستين ألفاً، حصد منهم ناشر صحيفة «الديار» ورئيس تحريرها شارل أيوب 255 صوتاً فقط. وفي المتن فإن تاريخ فؤاد أبو ناضر القتالي لم يسعفه بالفوز بأكثر من 1997 صوتاً من أصل 96713 مقترعاً. وفي بعبدا اختزلت 1860 صوتاً تاريخ النائب السابق بيار دكاش السياسيّ والخدماتيّ. وعجز مرشح الحزب الشيوعي في البقاع الغربي فاروق دحروج عن حصد أكثر من ألفي صوت، متراجعاً في بلدته القرعون نفسها من 1448 صوتاً نالها عام 2005 إلى 159 صوتاً فقط عام 2009.
بعيداً، إذاً، عن الاقتراح الفرزليّ، أجريت الانتخابات النيابية خلال العقود السابقة ولدورات متتالية وفقاً لقوانين ميّزت بين اللبنانيين. وأتاحت لبعض القوى إنشاء دويلات مذهبية مقفلة، تضع فيها الأكثريات أياديها على مقاعد الأقليات بما يهدد جدياً انتخابات تلو أخرى بانفجار السلم الأهلي المفترض. ولم يحظ المرشحون المستقلون والعابرون لطوائفهم، بحسب وصفهم لأنفسهم، بأية حظوظ في الوصول عبر هذه القوانين إلى المجلس النيابي. والأهم من ذلك، أن الناخب ــــ عامة ــــ من قبل أن يولد الفرزلي حتى، يحمل مذهبه يوم الانتخابات ويذهب به إلى صناديق الاقتراع، مفضلاً من يحمي مصلحة مذهبه على حماة المصلحة العامة. وما اقتراح اللقاء الأرثوذكسي في هذا السياق إلا مشروع يراعي سلوك الناخبين العام، مخففاً شغف البعض بأكل قطع تخص البعض الآخر، من قالب حلوى يفترض الدستور أن جميع الطوائف تشترك في أكله.

زعزعة الأحاديات المذهبية

في ظل الدويلات المذهبية القائمة أساساً، تظهر المقارنة بين نتائج الانتخابات النيابية والبلدية قدرة اقتراح قانون اللقاء الأرثوذكسي على زعزعة زعامة الأحاديات المذهبية في هذه «الدويلات». ففي الانتخابات النيابية السابقة، عمد زعماء الطوائف إلى تخويف طوائفهم من مسّ الطوائف الأخرى بنفوذهم النيابيّ حتى يزداد الالتفاف الشعبي حولهم، فترتفع نسبة المقترعين الشيعة في دائرة بعلبك ــــ الهرمل، مثلاً، وفي غياب أية منافسة، إلى 57.5%، يؤيد نحو 96% منهم لائحة حزب الله، مقابل ارتفاع نسبة الاقتراع السني في عكار إلى 60.9% وتأييد نحو 80% منهم لائحة المستقبل. أما في «البلدية»، فينصرف الناخبون، مطمئنين إلى «عدم تسلل الغريب إلى دويلاتهم»، إلى محاسبة مرجعياتهم ومقاسمتها السلطة، فيغدو حزب الله كما تيار المستقبل مضطرين إلى خوض انتخابات جدية حتى في معاقلهم الرئيسية، الأمر الذي يمكن اقتراح قانون اللقاء الأرثوذكسي أن يدفع باتجاهه في الانتخابات النيابية أيضاً، فتتزعزع، خلافاً لما يشاع، الأحاديات في الدويلات المذهبية القائمة أساساً؛ إذ تتيح نسبية القانون الأرثوذكسي قيام تجمع انتخابي جديّ لخصوم المستقبل على امتداد الدويلة السنية القائمة وتجمع شيعي آخر عابر للحساسيات الحالية بين المعارضين الشيعة لحزب الله وحركة أمل. ويحل «الأرثوذكسي» أزمة تمثيل الأقليات الطائفية في مختلف المناطق، في انتظار بلوغ شاطبي القيد الطائفيّ نسبة تخولهم المطالبة بمقعد نيابي أو أكثر. مع الأخذ في الاعتبار أن الناخب الشيعي والسني والدرزي ــــ عموماً ــــ لم يكتف بانتخاب المرشح الشيعي والسني والدرزي إنما حرص أولاً على اختيار المرشح المسيحي الذي يناسبه، ليس لانفتاحه ومحبته للآخر كما يصور تيار المستقبل اليوم، بل ليضمن حصول طائفته على حصة نيابية أكبر من حصتها الأساسية. والمفارقة أن الاقتراح الفرزلي يوفر عدالة تمثيلية على صعيد التمييز بين المواطنين أكثر نسبياً مما تفعل القوانين التي سبق اعتمادها، فيتساوى الكسروانيّ بالعكاريّ أقله من حيث تمثلهما الطائفيّ، فلا يعود أحدهما يُمثل في المجلس النيابي بسني وماروني وأرثوذكسي وعلوي، والآخر بمارونيّ فقط. أما من يجدون في التمثيل المذهبي للناخبين مشكلة، فلا علاقة للاقتراح الفرزليّ أو الاقتراحات الأخرى بمشكلتهم؛ عليهم الضغط باتجاه واحد: «وضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي» كما يوصي الدستور، بحيث تنزع خانة المذاهب عن مقاعد المجلس، وتغدو الكراسي ملك الناخبين لا طوائفهم.

أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة